الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
إمّا أن تكون مع الجبّار أو تكون من الجبّارين في الأرض:
أيها الإخوة الكرام؛ لا زلنا في اسم الجبّار، والحقيقة الدقيقة والخطيرة أنه إما أن تكون مع الجبّار الأعلى، مطيعاً، مُتذللاً، مُفتقراً، مُحباً، مُقبلاً، إما أن تكون مع الجبّار الأعلى، فتستمد منه القوة، وتكون عزيزاً، ويكون خطك البياني في صعود مستمر، وإما أن يكون الإنسان من جبابرة الأرض بالباطل، لذلك يقصمه الجبّار الأعلى، وترون وتسمعون كل حين كيف أن الله سبحانه وتعالى يقصم أحد جبابرة الأرض.
أيها الإخوة؛ في الحديث الصحيح
(( عن أبي هريرة: الكبْرِياءُ ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداُ منهما قذَفْتُهُ في النار. ))
لا يسمح الله لجهة في الأرض أن تتأله، يسمح لها إلى حين، ثم يقصمها، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)﴾
علاقة المسلم باسم الجبّار:
لكن ما علاقتنا بهذا الاسم؟
أول علاقة أكدها النبي عليه الصلاة والسلام حين قال:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ. ))
لكن النبي كما يقال باللغة الدارجة: جبّار الخواطر، قال: ((وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ)) ولو كنت مؤمناً ضعيفاً.
المال والعلم والسلطة والجاه وفق منهج الله قوةٌ:
لكن ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ)) لماذا؟ قال: لأن خيارات المؤمن القوي في العمل الصالح لا تُعَدّ ولا تحصى، أي مؤمن غني بإمكانه أن يفتح ميتماً، معهداً شرعياً، مستشفى، مستوصفًا، مشروعاً سكنياً للشباب، بإمكانه أن يصل إلى أعلى مراتب الجنة بماله، المال قوة كبيرة جداً، هو قِوام الحياة، ينشئ مساجد، ينشى معاهد، مستشفيات، يُزوِّج شباباً، يُطعم الأيتام، يرعى الفقراء، يكون في قلوب الملايين، لذلك: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ)) المال قوة، وأن تكون في منصب رفيع وفق منهج الله، بجرة قلمٍ تُحِقُّ حقاً، وتُبطل باطلاً، تُقِر معروفاً، وتُزيل منكراً، تُقرّب مخلصاً ناصحاً، وتُبعد فاجراً منافقاً، المنصِب قوة كبيرة جداً، والمُمَكَّنون في الأرض رؤيتهم واسعة، وإذا عرفوا الله عز وجل أعمالهم جليلة.
﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)﴾
و:
(( مَا يَزَعُ النَّاسَ السلطانُ أَكْثرُ مِمَّا يَزَعُهُمْ القُرآنُ. ))
[ أخرجه زيادات رزين عن عثمان بن عفان ]
وأن تكون عالماً العلم قوة، لأن صُنّاع القرار في الأرض يأخذون من العلماء اقتراحاتهم، والحقيقة الدقيقة كأن العلماء هم يحكمون الأرض، لأن صُنّاع القرار يأخذون خبرة هؤلاء العلماء، لذلك قال الإمام الشافعي: إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطِك شيئاً، بل إن الحقيقة الدقيقة أن الإنسان يظل عالماً ما طلب العلم، فإذا ظنّ أنه علِم فقد جهل، لذلك الكلمة الراقية المتواضعة المؤدبة لا أن تقول: أنا عالم، قل: أنا طالب علم، لأنه فوق كل ذي علم عليم.
على الإنسان أن يكون قوياً إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله:
أيها الإخوة؛ بناء على هذا الحديث الصحيح في الصحاح:
((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ)) إما بماله، أو بعلمه، أو بمنصبه،
(( عن عبد الله بن عمر: لا حَسَدَ إلا على اثْنَتيْنِ: رجلٌ آتَاهُ اللَّهُ القرآنَ فقام به آناء اللَّيل وَآنَاءَ النَّهارِ، ورجلٌ أعْطاهُ اللَّهُ مالاً فَهوَ يُنْفِقِهُ آنَاءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ. ))
﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)﴾
إذاً بناءً على هذا الحديث ينبغي أن تكون قوياً إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله، فإن كان طريق القوة على حساب مبادئك وقِيَمك فالضعف وسام شرف لك، لا أقبل بالقوة إلا إذا كانت وفق منهج الله، وبناء على هذا الحديث ينبغي أن يكون المؤمن غنياً، حتى يتقرب إلى الله بماله، ولكن بشرط أن يكون طريق الغنى وفق منهج الله، لكسب مشروع وفق منهج الله، لا بالغش، ولا بالدجل، ولا بالاحتكار، ولا بالمعاصي في البيع والشراء لا يعلمها إلا الله، وإذا كان طريق العلم سالكاً وفق منهج الله ينبغي أن تكون عالماً، إذاً النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ)) .
أيها الإخوة؛ الحقيقة الأولى وقد نوّهت بها في الدرس السابق، الله جلّ جلاله وحده هو القوي، ولا قوي سواه.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)﴾
أية قوة في الأرض مستمدة من الله تأييداً، أو استدراجاً، أية قوة في الأرض مُستَمدة من قوة الله عز وجل، ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾ .
ابحث عن قوة لا تحتاج إلى غيرها:
الآن الحقيقة الثانية؛ إذا أردت القوة الحقيقية فابحث عن قوة لا تحتاج إلى غيرها، لو كنت قوياً بإنسان ذي منصب رفيع، هذا الإنسان قوته مُستَمدة من بقائه في منصبه، فلو أُزيح عن منصبه فَقَدَ قوته، فإذا كنت أنت معه فقدتَ أنت أيضاً قوتك، إن أردت القوة الحقيقية فابحث عن قوة لا تحتاج إلى غيرها، إنها قوة الله.
الشيء الذي لا نستطيعه هو الشيء الذي لا نريد أن نفعله:
الحقيقة الثانية؛ يجب أن نعلم علم اليقين أن الشيء الذي لا نستطيعه هو الشيء الذي لا نريد أن نفعله، لأن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلّما تنقضه الأيام إذا كان صادراً حقاً عن إرادة وإيمان، أما الدليل القرآني:
﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)﴾
لكن الله سبحانه وتعالى لا يتعامل مع التمنيات، لأنها بضائع الحمقى.
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)﴾
الآن أنت كمؤمن كيف تكون قوياً؟ تكون قوياً بالتوحيد، لأنه ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، فالتوحيد تحرير للإنسان من كل عبودية إلا لربه الواحد الدّيّان، المؤمن حر، المؤمن لا يُجَيّر لأحد، بل لا يليق بك أن تكون لأحد، أنت لله، أحد أكبر أسباب قوتك أنك محسوب على الله وحده، أما أية جهة في الأرض قد تُعَدّ محسوبة على جهة قوية، فقوتها مستمدة من هذه الجهة، فإذا فقدت قوتها فجأة ضعُفت هذه الجهة التي اعتمدت عليها، والتوحيد تحرير لعقل الإنسان من الخرافات والأوهام، والتوحيد تحرير لضميره من الخضوع والاستسلام، والتوحيد تحرير لحياته من تسلط الأرباب والمتألهين.
الإمام الحسن البصري أدى أمانة العلم فبيّن، وكان في عهد الحجاج، فلما بلغ الحجاج ما قاله الحسن البصري غضِب غضباً شديداً، وقال لجلسائه: يا جبناء! لأروينكم من دمه، وأمر بقتله، وقتلُ الإنسان سهل جداً على الحجاج، جاء بالسيّاف، وأرسل رجاله لاستدعائه ليقتله، دخل الحسن البصري على مقر الحجاج، فرأى السياف واقفاً، ورأى النطع قد مُد، رداء يوضع لئلا يتأذى الأثاث بدم المقتول، اسمه النطع، فعرف مصيره، فحرك شفتيه ببعض كلمات لم يسمعها أحد، فإذا بالحجاج يقف له، ويقول له: أهلاً بأبي سعيد، أنت سيد العلماء، وما زال يُدنيه ويُدنيه حتى أجلسه على سريره، واستفتاه في موضوع، وعطّره، وضيّفه، وودّعه إلى باب القصر، الذي صُعق الحاجب والسياف، لأنهما يعلمان لماذا جيء بالحسن البصري، جيء ليُقتَل، تبِعه الحاجب، وقال له: يا أبا سعيد، حينما تدخلت تمتمت بكلمات لم نفهمها، فماذا قلت لربك؟ قال الحسن البصري: قلت لربي: يا ملاذي عند كربتي، يا مؤنسي في وحشتي، اجعل نقمته عليّ برداً وسلاماً كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
أنت بالتوحيد أقوى الأقوياء، ليس إلا الله، ولا إله إلا الله، وما شاءَ اللهُ كانَ، وما لم يشأْ لم يكن، إن أردت أن تكون قوياً فوحِّد الله.
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)﴾
أيها الإخوة؛ التوحيد قوة، الموحد لا يرى مع الله أحداً، الموحد علاقته مع جهة واحدة، الموحد يرى أن أهل الأرض لا يستطيعون شيئاً أمام إرادة الله، الموحد يرى أنه لا يخاف إلا ذنبه، ولا يرجو إلا ربه، الموحد يرى أن يد الله تعمل وحدها في الكون، الموحد يقرأ قوله تعالى فيقشعر بدنه:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾
تيمورلنك سُئل: من أنت؟ قال: أنا غضب الرب، فالطغاة هم غضب الرب، وظُلم الطغاة لا يُرَدّ بالسيوف، بل يُردّ بالصلح مع الله، فالتوحيد قوة، أيها المؤمن إن أردت أن تكون قوياً فوحِّد الله.
العلم قوة، العلم يعطيك طاقة لا تتقيد بحدود الزمان والمكان.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)﴾
رتبة العلم أعلى الرتب، تعلّموا العلم، فإن كنتم سادة فُقْتُم، وإن كنتم وسطاً سُدْتُم، وإن كنتم سوقة عشتم.
الخليفة سليمان بن عبد الملك حجّ بيت الله الحرام، وهو في بيت الله الحرام قال: مَن عالم مكة؟ قالوا: عطاء بن أبي رباح، قال: أروني عطاء هذا، فالتقى به-دققوا-رآه شيخاً حبشياً، أسود البشرة، مفلفل الشعر، أفطس الأنف، إذا جلس بدا كالغراب الأسود، كأن رأسه زبيبة، مشلولاً نصفه، لا يملك من الدنيا درهماً ولا ديناراً، فقال سليمان: أأنت عطاء بن أبي رباح! الذي طوّق ذكرك الدنيا؟! قال: هكذا يقولون، قال: بمَ حصّلت هذا الشرف؟ قال: باستغنائي عن دنيا الناس، وحاجتهم إلى علمي الذي انقطعت له ثلاثين عاماً، فقال سليمان: لا يُفتي في المناسك إلا عطاء، بعد يومين اختلف مع أبنائه حول قضية في الحج، قال: خذوني إلى عطاء، فأخذوه إلى عطاء وهو في الحرم، والناس مُتَحلقون حوله، فأراد سليمان أن يجتاز الصفوف، ويتقدم إليه، وهو الخليفة، فقال عطاء: يا أمير المؤمنين خُذ مكانك، أي ابقَ في مكانك، ولا تتقدم الناس، فإن الناس سبقوك إلى هذا المكان، فلما أتى دوره سأله المسألة فأجابه، فقال سليمان لأبنائه: يا أبنائي-دققوا-عليكم بتقوى الله، والتفقه في الدين، فو الله ما ذللت في حياتي إلا لهذا العبد.
العلم قوة، لأن الله يرفع من يشاء بطاعته، وإن كان عبداً حبشياً، لا مال ولا نسب، ويُذِلّ من يشاء بمعصيته، وإن كان ذا شرف ونسب، ثم قال سليمان لأحد ولديه: يا بني! هذا الذي رأيته ورأيت ذُلنا بين يديه هو وارث عبد الله بن عباس، الصحابي الجليل الذي أوتي فهماً في القرآن، وكان موسوعة في كل العلوم، ثم أردف يقول: يا بني! تعلّم العلم، فبالعلم يشرف الوضيع، وينبغ الخامل، ويعلو الأرقاء إلى مراتب الملوك، أنت كمؤمن توحيدك قوة، وعلمك قوة.
الآن الدعاء قوة، الدعاء قوة كبيرة، سيدنا يونس في بطن الحوت، في ظُلمة بطن الحوت، في ظُلمة البحر، في ظُلمة الليل، والأمل بالنجاة صفر.
﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
التوحيد قوة، والعلم قوة، والدعاء قوة.
الآن والإصرار قوة، حدثني عالم من علماء دمشق عن قصة سمعتها منه، ولم أقرأها، أن إنساناً في صعيد مصر أرسل ابنه إلى الأزهر، وعاد يحمل الإجازة، وألقى خطبة في مسجد القرية، فبكى الأب بكاءً مُراً، الأب في الخامسة والخمسين، أميّ لا يقرأ ولا يكتب، كل مَن حول الأب توهموا أنه بكى فرحاً بابنه، والحقيقة ليست كذلك، إنه بكى أسفاً على عمره الذي أمضاه جاهلاً، ركب جحشته، ما عنده غيرها، وتوجه إلى القاهرة، وبقي في الطريق شهراً، هناك ألف كيلومتر، فلما وصل القاهرة قال: أين الأزعر؟ أي أزعر هذا؟ قال لهم: مكان العلم، قالوا: اسمه الأزهر، وصل إليه، وتعلّم القراءة والكتابة في الخامسة والخمسين، ثم تعلّم القرآن، ومات في السادسة والتسعين، وما مات إلا شيخ الأزهر.
الإصرار قوة، أحد شيوخ الأزهر التحق بالأزهر فلم ينجح فترك الأزهر، جالس في بيته رأى نملة تصعد على الحائط، وقعت، أعادت الكرَّة، عدَّ محاولاتها فإذا هي ثلاث وأربعون محاولة، فاستحيا من النملة، وتابع دراسته، الإصرار قوة، التوحيد قوة، العلم قوة.
الإيمان قوة مطلقة، من فرعون؟ أحد أكبر جبابرة الأرض، فرعون الذي قال:
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾
فرعون الذي قال:
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)﴾
له بنت ولهذه البنت ماشطة، مرة وقع المِشط من يدها، فقالت الماشطة: بسم الله، قالت لها بنت فرعون: ألك رب غير أبي؟ قالت لها: الله ربي وربك ورب أبيك، قالت: سأخبر أبي، فلما أخبرت أباها جاء بهذه الماشطة، وهي تعمل عنده في القصر، وجاء بأولادها الخمس، وجاء بقِدر فيه زيت مغلي، وأمسك ولدها الأول، قال لها: ألك رب غيري؟ قالت: الله ربي وربك، هذه القصة في البخاري، فألقى ولدها الأول في القدر حتى انسلخت عظامه عن لحمه، وطفت عظامه على سطح القِدر، حتى رأت ابنها هكذا، أمسك الثاني، قال لها: ألك رب غيري؟ قالت: الله ربي وربك، فألقى ولدها الثاني والثالث والرابع، قصة طويلة، أما الخامس فكان رضيعاً، فلما قال لها: ألك رب غيري؟ سكتت، تضعضعت، فأنطق الله الغلام، قال: اثبتِي يا أمي، أنت على حق، فقالت: الله ربي وربك، ألقى ولدها الرضيع الخامس، ثم ألقاها في القِدر.
(( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلادِهَا، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ سَقَطَتْ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟ قَالَتْ: لا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ، قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ! قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَتْهُ، فَدَعَاهَا فَقَالَ: يَا فُلانَةُ ؛ وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ؛ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا، قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنْ الْحَقِّ، قَالَ: فَأَمَرَ بِأَوْلادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا أُمَّهْ ؛ اقْتَحِمِي فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: تَكَلَّمَ أَرْبَعَةُ صِغَارٍ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلام، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ . ))
القصة ليست هنا، النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((لَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلادِهَا)) رائحة طيبة جداً.
الحياة ستون سنة، سبعون سنة، أكبر رقم تتصوره واحد بالأرض وأصفار للشمس، مئة وستة وخمسون مليون كيلومتر، كل ميليمتر صفر، هذا الرقم أمام الأبد صفر، أي رقم-هذه بالرياضيات-نُسِب إلى اللانهاية فهو صفر، الدنيا صفر، بأموالها، بقصورها، بمركباتها، بنسائها، بفقر صاحبها، الدنيا صفر، الغنى والفقر بعد العرض على الله، فهذه الماشطة فقدت حياتها، وحياة أولادها، وهي بطولة كبيرة جداً، ولكنها كسبت الأبد.
أيها الإخوة؛
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)﴾
استمد قوتك من الله، الله مع الحق، لا تتضعضع، لا تتطامن، لا تستسلم، لا تنبطح، لا تنافق، كلمة الحق لا تقطع رزقاً، ولا تُقَرّب أجلاً، الله جبّار بالحق، وجبّار الأرض بالباطل، وجبّار السماء يقصم جبّار الأرض، لكن المؤمن قوي بإيمانه، القوة غير الجبروت، المؤمن قوي بإيمانه، هذه القوة تعطيه عزة، ومكانة، وجرأة، فلذلك: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ)) .
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق